فصل: تفسير الآيات (9- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة الكهف:

نزولها: مكية بالإجماع، إلا بعض آيات اختلف فيها.
عدد آياتها: مائة وعشر آيات.
عدد كلماتها: ألف وخمسمائة وتسع وسبعون كلمة.
عدد حروفها: سبعة آلاف، وثلاثمائة وستة أحرف.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 8):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)}.
التفسير:
بدأت هذه السورة بحمد اللّه، فكان هذا البدء جوابا على ختام السورة التي قبلها، واستجابة لأمر اللّه سبحانه وتعالى في الآية الأخيرة منها، وهى قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}.
فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ}.
ف قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} هو وجه آخر من وجوه الحمد للّه سبحانه وتعالى.. فإذا استوجب اللّه سبحانه وتعالى الحمد لجلاله وعظمته، وتنزهه عن أن يتخذ ولدا، أو يكون له شريك في الملك أو ولىّ من الذل- فإنه سبحانه، مستوجب الحمد كذلك على تلك النعمة الجليلة التي أنعم اللّه بها على عبده محمد، فأنزل عليه هذا الكتاب الذي تستنير بآياته البصائر، وتعمر بتلاوته القلوب، وتهتدى به العقول.. فتلك النعمة الجليلة هي التي تمت بها نعم اللّه على الإنسان، إذ خلقه، ورزقه، وسخر له ما في السموات وما في الأرض.. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} [1: الأنعام] فالذى يجعل لهذه النعم ثمرات مباركة طيبة، والذي يجعل إلى يد الإنسان ميزانا يضبط به هذه النعم على وجه الخير والإحسان- هو تلك الهداية التي يستمدّها من هذا الكتاب الكريم.. وبغير هذا لا يستطيع أن يحسن الانتفاع بهذه النعم، بل ربما تحولت هذه النعم في يده إلى أسلحة قاتلة، له وللناس معه.. فكان نزول هذا الكتاب من تمام نعم اللّه على عباده.
فاستوجب سبحانه الحمد والشكران.
وفى ذكر محمد صلوات اللّه وسلامه عليه بالعبودية تكريم له من ربّه، ورفع لمقامه، إذ جعله عبدا استحق أن يضاف إليه سبحانه!- وفى قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} إشارة إلى سماحة الشريعة الإسلامية، التي جاء بها محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، والتي حملها هذا الكتاب الذي لا عوج فيه، ولا خروج في أحكامه وتشريعاته عن سنن الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [153: الأنعام].
فالقرآن الكريم لم يجيء بأيّ تكليف فيه حرج، ومشقة، كما جاءت الشرائع السابقة، التي حملت إلى المدعوّين إليها، ضروبا من الإعنات والإرهاق.
تأديبا، وإصلاحا، لما فيهم من اعوجاج حادّ، كما في شريعة موسى، ووصايا عيسى، فقد حرّم اللّه في شريعة موسى على بنى إسرائيل طيبات كانت أحلّت لهم كما يقول سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [160: النساء] وكما يقول سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ} [146: الأنعام].
ومن البلاء الذي أخذ اللّه به بنى إسرائيل، أن جعل من شريعتهم حرمة العمل في يوم السبت، ولم يكن ذلك رحمة بهم، بل نكالا وبلاء، كما يقول سبحانه: {إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [124: النحل].. أما وصايا السيد المسيح لهم، فيكفى أن يكون دستورها قائما على هذا المبدأ: من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا.
ولا شك أن هذا عوج مقصود في الشريعة التي شرعت لهم، ليقابل هذا العوج ما فيهم من عوج! أما هذه الأمة- أمة الإسلام- فقد عافاها اللّه من هذا البلاء، وجعل شريعتها قائمة على السماحة واليسر، متجاوبة مع الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها، كما يقول سبحانه: {هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [78: الحج].. فاللّه سبحانه، قد اجتبى هذه الأمة واصطفاها، ليخرج منها خير أمة أخرجت للناس..!
هذا، هو المعنى الذي أطمئن إلى فهم الآية الكريمة عليه، وإن كنت في هذا لا أعرف أن أحدا من المفسرين قد نظر إليه، أو عدّه مقولة من تلك المقولات الكثيرة التي قيلت في تفسير هذه الآية، والحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدى لولا أن هدانا اللّه.
وفى تعدية الفعل يجعل باللام {له} بدلا من في إشارة إلى أن هذا العوج الذي جاء في الكتب السابقة- تأديبا وتقويما- لم يكن في أصل هذه الكتب، وإنما هو لها أي أداة من الأدوات التي تملكها، لتؤدب بها الطغاة المتمردين.. فهذا العوج هو شيء تملكه، وهو خارج عن ذاتها، وطبيعتها.
وقوله تعالى: {قَيِّماً}.
هو حال أخرى، من أحوال هذا الكتاب الذي أنزله اللّه مستقيما لا عوج فيه.
والقيّم: هو الذي يهيمن على غيره، ويضبط موارده ومصادره.
وذلك هو شأن القرآن الكريم، مع الكتب السماوية التي سبقته، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [48: المائدة].
قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً}.
البأس الشديد: هو العذاب الأليم، الذي توعّد اللّه سبحانه وتعالى به الذين لا يؤمنون باللّه، ولا يعملون الصّالحات، على خلاف الذين يؤمنون باللّه ويعملون الصالحات، فقد بشرهم اللّه سبحانه، بالأجر الحسن، والجزاء العظيم، الذي يفيضه سبحانه وتعالى عليهم، من رضوانه، ويلبسهم إياه، فلا ينزعه عنهم أبدا.
والآية لم تشر إلى صفة هؤلاء المنذرين بالبأس الشديد، اكتفاء بالوصف الذي استحقّه أصحاب الأجر الحسن الذي يمكثون فيه أبدا، وهم المؤمنون الذين يعملون الصالحات.
قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً}.
أعادت الآية الإنذار هنا، لتواجه طائفة من الذين لا يؤمنون باللّه، ولا يقدرونه حقّ قدره، وهم الذين نسبوا إليه سبحانه وتعالى ولدا، وهم اليهود، الذين قالوا {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، والنصارى، الذين يقولون: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}.
وفى اختصاصهم بالذكر هنا لإزالة شبهة قد تبدو من اعترافهم بوجود اللّه، وإيمانهم به إلها.. فهذا الإيمان قد يجعل لهم مدخلا إلى المؤمنين باللّه، مع تلك المقولات الشنيعة التي يقولونها بنسبة الولد إليه.. ومن هنا يشتبه أمرهم على المؤمنين، ومن ثمّ فلا يكون لقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} متوجّه إليهم.
فقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} عزل لهؤلاء القائلين بتلك المقولة الشنعاء في اللّه، عن أن يكونوا في المؤمنين.! فإنه لا يجتمع الإيمان باللّه، ونسبة الولد إليه.. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وفى قوله تعالى: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ}.
إشارة إلى أن هؤلاء المعتقدين في اللّه هذا المعتقد لا علم لهم بما للّه سبحانه من قدر، يتنزه به عن الصاحبة والولد، وعن الشريك في الملك.
فالضمير في {به} يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى.. وهذا يعنى أن علمهم باللّه هو علم ناقص، مشوب بالأوهام والضلالات.. وليس الخلف خيرا من السّلف في هذا العلم باللّه، فهم جميعا على جهل، وسفه، وضلال.. {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ}.
وفى قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ} تشنيع عليهم، وتهويل لهذه الكلمة الحمقاء التي يقولونها في اللّه، وأنها قولة لا تستند إلى عقل، ولا تقوم على منطق، وإنما هي مما يجرى على الأفواه من لغو الكلام وساقطه!- وقوله تعالى: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} هو وصف كاشف لهذا القول الذي يقولونه في اللّه، سبحانه وتعالى، وأنه قول كذب صراح وبهتان مفضوح! وهذا ما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى: {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [30: التوبة]. و{إن} حرف نفى، بمعنى {ما}.
أي ما يقولون إلا كذبا.
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}.
الخطاب هنا، للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه.. والضمير في قوله تعالى: {عَلى آثارِهِمْ} يعود إلى مشركى العرب، وخاصة مشركى مكة.
والباخع: من مات غمّا، والبخع، هو الموت غمّا، وبخع بما عليه من حقّ:
أقرّ به مكرها على مضض.
والأسف: الحزن الشديد، الذي يجيء من رقة الشعور ورفاهة الحسّ.
وفى الآية دعوة إلى النبي الكريم، أن يتخفف من دواعى الحسرة والأسف على قومه، الذين يأبون الاستجابة له، والإيمان بهذا الكتاب الذي يتلوه عليهم، ويدعوهم إلى اتباعه.
وفى قوله تعالى: {عَلى آثارِهِمْ} تلويح بالتهديد لهؤلاء المشركين، وبالهلاك المطلّ عليهم، إذا هم أصروا على هذا الموقف المنحرف، الذي يقفونه من النبي والكتاب الذي معه، وأنهم في معرض أن يصبحوا أو يمسوا، فإذا هم في الهالكين، وإذا هم أثر بعد عين.
{إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً}.
الأرض الجرز: التي لا نبات فيها، سواء كان ذلك لأنها لا تنبت أصلا، أو كان فيها نبات ثم اقتلع من أصوله.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أنه لما كان الذي صرف المشركين عن الإيمان باللّه، وبالكتاب الذي أنزل على رسوله- هو اشتغالهم بالحياة الدنيا، وبالتكاثر والتفاخر بينهم، فقد جاءت هذه الآية لتكشف لهم عن دنياهم هذه التي صرفتهم عن النظر في آخرتهم، وأن هذا المتاع الذي في هذه الدنيا، إنما جعله اللّه سبحانه وتعالى زينة لها، حتى يكون للناس نظر إليها، واشتغال بها، وعمل جاد نافع فيها.. وفى هذا ابتلاء لهم، وامتحان لما يحصّلون منها.
فالذين يأخذون حظّهم من الدنيا ولا ينسون نصيبهم من الآخرة، هم الفائزون، والذين يجعلون الدنيا همّهم، دون التفات إلى الآخرة، هم الذين خسروا أنفسهم، وباعوها بالثمن البخس.. فهذه الدنيا وما عليها، ومن عليها.. كل هذا إلى زوال، ولا يبقى من ذلك إلا ما ادخره المؤمنون المحسنون من زاد طيب في دنياهم، ليوم الحساب والجزاء.
أصحاب الكهف:

.تفسير الآيات (9- 26):

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)}.
التفسير:
حرصنا على أن نأتى بقصة أصحاب الكهف، في هذه الآيات الثماني عشرة، حتى تكون تلاوة هذه الآيات في نظمها هذا الذي جاءت عليه، صورة كاملة لتلك القصة.
والآيات- كما ترى- واضحة المعنى، بحيث تقع القصة والأحداث التي ضمّت عليها، لأدنى نظر، بمجرد تلاوتها.
ومع هذا، فقد رأينا أن نقف وقفة، مع هذه القصة، نمعن فيها النظر.
إلى ما وراء {النظرة الأولى} وسنرى، أن هناك أعماقا بعيدة لا نهاية لها.
وأننا كلما زدنا الآيات نظرا، أطلعتنا منها على مذخورات من الأسرار، التي تخلب اللبّ، وتذهل العقل.
ونبدأ أولا بشرح بعض المفردات، التي ربّما كانت الحال داعية إلى إلقاء نظرة أولى عليها:
فى الآية: (9).. {الكهف}: هو الغار الواسع في الجبل، {وَالرَّقِيمِ}:
المرقوم، المعلم، ويمكن أن يكون ذلك هو بعض الآثار المنحوتة في هذا الكهف، كأعمدة عليها نقوش، أو كتماثيل قائمة على مدخل الكهف، على ما كان مألوفا في الزمن القديم.. فهناك إذن كهف، ومرقّمات وآثار متصلة بهذا الكهف.
وفى الآية: (11).. {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ}: الضرب: إبقاع الشيء على الشيء.. والضرب على الآذان: إحاطتها بما يحجبها عن السمع، كضرب الخيمة على من بداخلها.. ومنه قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}.
وفى الآية: (14) {رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ}: أي شددنا على قلوبهم، وأمسكنا بها من أن تطير شعاعا من الجزع أو الخوف. والشّطط: البعد، والمراد به في الآية: البعد عن الحق.
وفى الآية: (16) {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}: أي يبسط لكم من رحمته.. والمرفق: ما يرتفق به، ممّا يقوم عليه شأن الإنسان في أمور معاشه ومعاده.. وكأنه الرفيق الذي يعينه ويؤنس وحشته.
وفى الآية: (17) {تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ}: أي تميل، والمزورّ عن الشيء:
المائل عنه.. {تَقْرِضُهُمْ} أي تقطعهم، وتنحاز عنهم، كما يقطع المقراض المقصّ الشيء، ويفرق بين أجزائه.
وفى الآية: (18).. {بِالْوَصِيدِ}: باب الكهف، الذي من شأنه أن يوصد على من بداخله.. والمراد به في الآية مدخل الكهف.
وفى الآية: (19).. {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ}: الورق: الفضّة، مضروبة أو غير مضروبة.. {أَزْكى طَعاماً}: أي أطيبه وأطهره، بحيث لا يعلق به دنس أو رجس. {لْيَتَلَطَّفْ}: يترفّق، ويأتى الأمر بلطف ولباقة.
وفى الآية: (20). {يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} يطّلعوا عليكم، ويعرفوا مكانكم.
وفى الآية: (21).. {أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ}: أي أطلعنا الناس على أمرهم، وكشفناهم لهم عن غير قصد منهم لذلك، وإنما هو صدفة على غير توقع.
وفى الآية: (22) {رَجْماً بِالْغَيْبِ}: أي ظنّا ووهما.. كأنهم يرجمون شيئا محجبا في الظلام لا يرونه، وقد يصيبون وقد يخطئون.. {فَلا تُمارِ فِيهِمْ} أي لا تجادل.. {إِلَّا مِراءً ظاهِراً}.
أي غير متعمق فيه، أو متجاوز حدود ما نطق به القرآن من أمرهم.
عرض القصة:
وقبل أن نعرض القصة، كما تحدثت عنها الآيات، نرى أن نعرض كلمة موجزة عن القصة كفن من فنون القول، وعن مكانتها في فنون القول، من شعر، ونثر، ومثل، وحكمة.. وما إلى ذلك مما ينسج من كلمات اللغة وعباراتها.
كلمة عن القصة:
القصّة في هذا العصر-كما هي في كل عصر- أفضل وسيلة للتربية والتهذيب.. فعن طريق العرض القصصى لحوادث القصة وأشخاصها، تتفتح أشواق النفس إلى متابعة هذا العرض، وإلى المشاركة الوجدانية، في مواقف القصة، وأحداثها، وأزمانها، حتى لكأن القارئ أو المستمع، أو المشاهد- جزء منها، وواحد من أشخاصها، يأخذ الموقف الذي يرتضيه لنفسه من بين مواقفها، ويعيش مع كل حدث من أحداثها، متأثرا به، ناظرا إليه، كلما وقف مثل هذا الموقف من الحياة.. إذ لا تنتهى القصة، حتى يكون المستمع لها، أو القارئ أو المشاهد قد عاش في تجربة نفسية، وقطع مرحلة، تطول أو تقصر، حسب طول القصة أو قصرها- مرحلة تترك في كيان الإنسان آثارا عقلية، ووجدانية، وروحية، أشبه بتلك الآثار التي يتركها الصوت على صفحة لوح التسجيل.. بعضها عميق، وبعضها ضحل الغور، حسب قوة الإحساس وضعفه، وتبعا لتلقى القارئ أو السامع، أو المشاهد، وتجاوبه أو تباعده، من القصة.
ولا تبلغ القصة مبلغا من النفس، ولا تصل أحداثها ومؤثراتها إلى وجدان الإنسان ومشاعره، إلّا إذا أحكم تصويرها، وجرت على اتجاه العقل والمنطق، وتجاوبت مع واقع الناس والحياة.. وإلا كانت خرافة، إن جنح بها الخيال، وحلقت في عوالم لا يعيش فيها الناس ولا يتصورونها.. أو كانت غثّة باردة، إن هي أمسكت بالأمور التافهة، التي لا يلتفت إليها أحد، ولا يعلق بها نظر! والقصة الناجحة، هي التي ينتزع موضوعها من أحداث الحياة وواقع الناس، أو ما يمكن أن يكون من أحداث الحياة وواقع الناس.. ثم يجرى أشخاصها في هذا المنطلق، وتوضع كل شخصية في المكان المناسب لها.
ولا نريد أن نجعل القصة موضوع هذا البحث، فإن الحديث عن القصّة، وما يجب أن يتوفر لها من عناصر النجاح يتطلب بحثا خاصا مستقلا، ليس هنا موضعه، ولا موضعه.. وإنما تلك إشارة مجملة تشير إلى ما للقصة من أثر في التربية والتهذيب، وأنها من هذه الناحية أداة قوية من أنجح أدوات التربية في يد المصلحين والمربين.
والقرآن الكريم- وهو مدرسة المسلمين، وجامعة المجتمع الإسلامى- لم يغفل شأن القصة، فهو يعتمد عليها في كثير من المواقف، لتكون وسيلة من وسائله الفعّالة، في تقرير الحقائق، وتثبيتها في النفوس، وفى تجليتها للعقول، وفى الكشف عن مواطن العبرة والعظة فيها.
وقصص القرآن الكريم، قصص جادّ، مساق للعبرة والعظة، وليس فيه مجال للتسلية واللهو، وليس من غايته ترضّى الغرائز المريضة، أو تملّق الرغبات الفاسدة، التي كثيرا ما تكون مقصدا أصيلا من مقاصد القصة عند كثير من كتاب القصص، الذين يجذبون القراء إليهم بهذا الملق الرخيص للغرائز الدنيا، التي تعيش في كيان الإنسان، وتترقب الفرصة السانحة التي تستدعيها، وتقدم الطّعم المناسب لها.
وعناصر القوة في القصص القرآنى مستمدة من واقعية الموضوع وصدقه، ودقة عرضه، والعناية بإبراز الأحداث ذات الشأن في موضوع القصة، دون التفات إلى الجزئيات التي يشير إليها واقع الحال، وتدلّ عليها دلالات ما بعدها وما قبلها من صور.. وذلك مما يشوق القارئ ويوقظه، ويفرض عليه مشاركة فعّالة في تكملة أجزاء القصة، واستحضار ما غاب من أحداثها، وهذا ما يجعله يندمج في القصة، ويعيش في أحداثها، ومن ثمّ يتأثر بها، وينتفع بما فيها من عظات وعبر.
قصة أصحاب الكهف:
وقصة أصحاب الكهف من القصص القرآنى، الذي خلا من عنصر المرأة، على خلاف كثير غيرها من قصص القرآن الذي كان للمرأة دور فيه.. كما أن موقف أبطالها جميعا، موقف تغلب عليه السلبيّة.. ليس فيه صراع ظاهر، ولا صدام محسوس بين طرفين، يقف كل منهما من صاحبه موقف الخصومة والتحدّى، ثم الكيد والصراع، ثم الانتهاء إلى نهاية بغلبة أحد الطرفين، وانهزام الطرف الآخر.
ليس في قصة أصحاب الكهف شيء من هذا الصراع، مع أية قوة من قوى الحياة، طبيعية كانت أو بشرية، بل إن الأمر لأكثر من هذا، حيث نرى الأشياء كلها متعاطفة حانية على هؤلاء الفتية، لا تلقاهم إلا بما هو خير لهم، وأصلح لشأنهم.
ولا شك أن خلوّ القصة من عنصر المرأة، يفقدها كثيرا من مقومات الحياة والقوة، بما يثير ظهور المرأة من عواطف، وما يوقظ من مشاعر.
فالمرأة في القصة، داعية من دواعى الإثارة والتشويق، لا يكاد يعرف للقصة طعم بغيرها.. كما أن خلوها من الأزمات، والمصادمات، يلقى عليها ظلالا من الخمود، والركود، ويعقد حولها جوّا من السآمة والملل.
فإذا خلت القصة من المرأة، ثم جاءت أحداثها- مع ذلك- سلبية، كان ذلك أدعى إلى فتورها، وضعفها، وزيادة البرودة فيها.. فإن السلبية معناها انسحاب الأشخاص، والأحداث، إلى الوراء، والاتجاه إلى حيث العزلة والانزواء، فلا تتبعهم عين، ولا يشخص إليهم شعور!.
وننظر في قصة أصحاب الكهف، كما عرضها القرآن الكريم، وقد خلت شخصياتها من المرأة، كما تجردت أحداثها من الإيجابية- ننظر في هذه القصة فنرى القرآن الكريم، قد ألبسها الحياة، وخلع عليها روحا من روحه، حتى لقد تحركت أمكنتها، ونطق صامتها، وجرت الحياة قوية دافقة في كل ما شمله موضوعها من كائنات، حية وجامدة، وناطقة، وصامتة.. وكان هذا الحسن في العرض، وهذه الدّقة المعجزة في تحريك الأحداث، عوضا عن حسن المرأة ودلّها، وبديلا من واقف الإيجاب، وتفاعل الأحداث.
ولولا هذا العرض المعجز، لما كانت هذه القضة قصة، ولما خرجت عن أن تكون خبرا يروى، أو حديثا ينقل.
وسورة {الكهف} التي سمّيت هذه التسمية به، لم يكن فيها قصة أصحاب الكهف وحدهم، وإنما ورد في هذه السورة ثلاث قصص أخرى.
هى قصة الرجلين: المؤمن والكافر، وما انتهى إليه أمر كل منهما.. ثم قصة موسى والعبد الصالح، ثم قصة ذى القرنين، وما جرى على يديه من أحداث.. كما سنرى.
ويلاحظ أن هذه القصص- شأنها شأن قصة أصحاب الكهف- قد خبت جميعها من عنصر المرأة.. ثم يلاحظ أيضا أن حوادثها جميعها من الخوارق المعجزة، التي يعجز الإنسان عن تصوّرها في عالم الواقع، إلّا أن يكون له دين يصله بأسباب السماء، فيضيف هذه الأحداث إلى قدرة القادر.
رب العالمين.
فنومة أصحاب الكهف، على تلك الصورة العجيبة، طوال هذا الزمن المتطاول، ثم يقظتهم بعد مئات السنين.. وإحاطة التدمير والتخريب بهذه الروضة الأريضة على هذه الفجاءة، التي لا تتصل بها أسباب ولا مقدمات.
وهذه الأحداث التي يجريها الرجل الصالح على غير ما يبدو من طبائع الأشياء، والتي ينظر إليها موسى نظر عجب واستنكار، ثم يظهر له فيما بعد أن هذا هو الوجه السليم لها.. وذو القرنين، وما مكّن اللّه له في مشارق الأرض ومغاربها، والحاجز العجيب الذي أقامه في وجه يأجوج ومأجوج- كل هذه الأحداث، معجزات قاهرة، تدعو الإنسان إلى أن يقف طويلا حيالها، ثم لا يجد لها سندا يضيفها إليه، إلا أن يكون الإله القادر، الذي ينبغى أن ينفرد بالألوهية.. فلا يكون للإنسان معبود سواه، يولّى وجهه إليه، ويخلص العبودية له.
فقصّة أصحاب الكهف، تجيء مع هذه القصص، وكأنها جميعها قصة واحدة، تخدم جميعها دعوة التوحيد، والتعرف على الخلاق العظيم، وما أودع في الموجودات من آيات قدرته، وعلمه، وحكمته.
ونعود لقصة أصحاب الكهف، من حيث هي قصص فنّى، يعالج فكرة، ويهدف إلى غاية!.
وأول ما يطالعنا من هذه القصة أنها تعرض في صورتين:
الصورة الأولى، صورة مصغرة، تضغط فيها الحوادث، وتطوى فيها الأزمان والأمكنة، فلا تتجاوز الآيات التي ترسم هذه الصورة- ثلاثا، هى:
قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)} هذه هي القصة مجملة، وهى في هذا الإجمال تمسك بالقصة كلها، وتبرز أهمّ العناصر المراد عرضها فيما بعد، على صورة ينفسح فيها المجال لتحرّك الأحداث، وانطلاق الأشخاص.
وهذا الملخص الموجز للقصّة، يثير الشوق، ويحرّك الرغبة للتعرف على ما وراء هذه الإشارات واللمحات.. وهنا يستجيب القرآن لداعى الحال، فيعرض القصة، مفصّلة بعض التفصيل، مسلّطا الأضواء على الجوانب المثيرة من موضوعها!.
ونودّ أن نشير هنا إلى أنه قبل بدء هذا العرض الموجز للقصة، قد سبقها تمهيد بارع، يؤذن بأن حدثا من الأحداث المثيرة يوشك أن يطلع وراء هذا التمهيد، وبهذا يتهيأ الحضور للقاء هذا الحدث، ويستحضرون له ما تفرق من مشاعرهم، وما شرد من خواطرهم.. وأشبه بهذا الصنيع تلك الطّرقات الخفيفة التي تسبق عرض القصة على مسارح التمثيل.. حيث تنبه الجمهور، وتستحضر وجودهم لما جاءوا لمشاهدته.
وهذا التمهيد الذي سبق القصة، هوقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً} فهناك كهف، وهناك رقيم، وأصحاب هذا الكهف وذاك الرقيم.. وأنهم.
أي أصحاب هذا الكهف والرقيم- آية من آيات اللّه المعجبة، المبثوثة في هذا الوجود.. وأنهم على ما اشتملت عليه قصّتهم من آية معجبة معجزة، ليسوا بأعجب ولا أعجز من أية آية من آيات اللّه.. فإن أصغر ذرّة في هذا الوجود، لو صادفها عقل رشيد، ونظرت إليها عين مبصرة، لرأت فيها من آيات اللّه ما يملأ القلب عجبا ودهشا.. ولكن النّاس- إلا قليلا منهم- لا يلفتهم إلى آيات اللّه إلا ما تلقاه حواسّهم لقاء مباشرا. حيث يتحرك أمام أعينهم، ويتحدث إليهم بما في كيانه من آيات ومعجزات.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ} [105: يوسف].
فهذا التمهيد، هو نخسة قويّة تنبه الغافلين، وتوقظ النائمين، وتنحى باللائمة على أولئك الذين لا يفتحون عيونهم، ولا يوجهون عقولهم على هذا الوجود، الذي كلّ ذرة من ذراته، وكل موجود- وإن صغر في العين، وخفّ ميزانه في التقدير- هو آية باهرة معجزة، من آيات اللّه.
وإذن فليست قصة أصحاب الكهف، التي يكثر الطالبون للتعرف عليها، ويلحّ المجادلون وأدعياء العلم في معرفة ما عند النبي منها- ليست هذه القصة بأعجب في ظاهرها وباطنها، من قصّة نواة أو حبّة، تدفن في التراب، ثم لا تلبث أن تكون نبتة مخضرة، تجرى فيها الحياة، كما تجرى في الوليد ينفتق عنه رحم أمه.. ثم إذا هي بعد زمن ما قد علت، واستوت على سوقها، وأخرجت زهرا ذا ألوان زاهية معجبة، يفوح منها ريح عطر.. ثم، وثم.. إلى آخر قصتها! ثم بعد هذا التمهيد، وبعد هذا العرض الموجز للقصة.. يبدأ العرض.
عرض القصة كلها.. في كلمات متناعمة، تتردد منها أصداء موسيقى خافتة عميقة، كأنها تجيء من بعد بعيد، في أغوار الزمن السحيق.. فتنقل المشاعر والعواطف في براعة، ولطف، إلى حيث الماضي البعيد، الذي عاشت فيه أحداث القصة وأشخاصها.
فيقول اللّه تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [26].
والقصة بهذا التصوير الرائع المثير المعجز، تنقل القارئ إلى جوّها الممتدّ في الزمن السحيق، من أول أن يبدأ العرض.. فلا يجد فرصة بعد هذا للانفصال عن هذا الجوّ، بل يظل في رحلته تلك البعيدة في أعماق الزمن، مبهور الأنفاس، مشدود الأحاسيس، متوتّر المشاعر.. حتى تنتهى القصّة ويسدل الستار!! فهؤلاء فتية.. فيهم شباب، وقوة ونضارة.. قد هدتهم فطرتهم السليمة منذ مطلع شبابهم، قبل أن يمتد بهم العمر، وينضح عليهم ما تفيض به بيئتهم من ضلالات وجهالات، وإذا هم يخرجون على مألوف قومهم، وينكرون ما عليه آباؤهم من كفر وإلحاد.
إن الشباب دائما، هو مطلع الثورات، ومهبّ ريحها، حيث التفتّح للحياة، والقدرة على التفاعل معها.. فإذا ولّى الشباب فهيهات أن تتحرك في الإنسان رغبة إلى اتجاه غير الاتجاه الذي قطع فيه هذه المرحلة الممتدة من عمره.
وفى وصف القرآن الكريم لهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً}.
، إشارة إلى أنهم اتجهوا إلى اللّه، ووضعوا أقدامهم على الطريق إليه، فاستقبلهم اللّه سبحانه وتعالى بألطافه على الطريق، ودفع بهم إلى مرفأ الأمن والسلامة.. وهذا يعنى أنه مطلوب من الإنسان أن يتحرك نحو الغاية التي يقصدها، فإن كانت حركته على طريق الخير، وجد من اللّه سبحانه العون والسداد، وإن كان على طريق الضلال والفساد، تركه اللّه لهواه، وأسلمه لشيطانه..!
وفى قوله تعالى: {وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً} في هذا توكيد للعون الذي أمدّهم اللّه به، منذ أن اتجهت قلوبهم إليه، وانعقدت نيّاتهم على الإيمان به.
وفى قوله تعالى: {إِذْ قامُوا} إشارة إلى أن ما تتجه إليه القلوب، وتنعقد عليه النيّات- وإن كان مقدّمة طيبة من مقدمات الفوز والنجاح- سيظلّ جسدا هامدا، حتى تنفخ فيه الإرادة، وينضحه العمل، فإذا هو كائن سوىّ الخلق، دانى القطوف.
وهؤلاء الفتية، لم يقفوا عند حدّ النيّة، بل {قاموا} أي تحركوا، وعملوا، فربط اللّه على قلوبهم تلك التي اتجهت إليه، وشدّ على هذه النيّات التي انعقدت على الإيمان به.
وإذ يتجه الفتية إلى اللّه هذا الاتجاه القوىّ الخالص من شوائب الشرك، وإذ تفيض قلوبهم إيمانا يباعد بينهم وبين قومهم، فلا يشاركونهم فيما هم فيه من ضلال الوثنية وسخافاتها- عندئذ يجدون أنهم غرباء في قومهم، معرضون للسخط، والإزدراء، ثم القطيعة، ثم الطرد، وربما القتل! إنهم قلة صالحة في مجتمع فاسد.. فليطلبوا لهم وجها في الأرض.. والا ساءت العاقبة، ووقع البلاء، وتعرضوا للفتنة في دينهم، الذي ارتضوه وآمنوا به.
وتناجى الفتية فيما بينهم، وارتادوا مواقع النجاة والسلامة لهم، ولدينهم.
إنه الفرار إلى أرض غير هذه الأرض، والهجرة إلى بلد غير هذا البلد! ولكن كيف يكون هذا، والقوم لهم بكل طريق؟
إن على مقربة من المدينة، وعلى الطريق الذي انتووا أن يأخذوه إلى موطنهم الجديد- كهفا يعرفونه. فليتخذوه سترا لهم، يختفون به عن أعين القوم أياما، حتى يفتقدهم القوم.. ثم يطلبونهم، ثم لا يجدون لهم أثرا! فإذا سارت الأمور على هذا التقدير.. خرجوا من الكهف- وقد نامت عنهم أعين الرقباء- ثم تابعوا السير إلى حيث ينتهى بهم المطاف إلى الجهة التي يريدونها.
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً}.
أرأيت إلى هجرة الرسول، وما كان لغار جراء فيها؟ إنه كهف مثل كهف أصحاب الكهف هذا، ولكأن القرآن الكريم يجيء بهذه القصة، وتتنزل آياتها على جماعة المسلمين، وهم في مكة يلقون ما يلقون من عنت وكيد وبلاء في سبيل عقيدتهم- لكأن القرآن إنما يجيء بهذه القصة في هذا الوقت، ليربط على قلوب تلك الجماعة القليلة المستضعفة من المؤمنين، وليريهم مثلا طيبا للمؤمنين الذين يسكن الإيمان قلوبهم، ويملأ مشاعرهم، استجابة لدعوة الفطرة من غير نبىّ ولا كتاب.. ثم لكأن فيما اتجه إليه أصحاب الكهف من الهجرة بدينهم، إشارة واضحة إلى منافذ الفرج والخلاص، من مواطن الكيد والبلاء، بالتحول من دار إلى دار، والانتقال من بلد إلى بلد!!
وغير بعيد أن تكون هجرة المسلمين إلى الحبشة، من وحي هذه القصة.
وغير بعيد أيضا أن تكون الخطة التي رسمها الرسول وصاحبه أبو بكر، في هجرتهما إلى المدينة، منظورا فيها إلى تلك القصة أيضا.. فقد جعل الرسول وصاحبه من غار حراء كهفا يؤويهما أياما، إلى أن تنقطع عنهما عين المتربصين من أشرار قريش.. ثم يكون بعدها الاتجاه إلى المدينة التي كانت مقصد الرسول وهجرته..!
ونعود إلى القصّة.. فنرى عجبا عجابا.
دنيا صامتة، يخّيم عليها السكون والوحشة، وغار يأخذ مكانه في هذه الدنيا الصامتة، وهذا السكون المطبق، وتلك الوحشة الخانقة..!
ولقد ألقى الفتية بأنفسهم في جوف الكهف، كما تلقى بضع حصيات في جوف المحيط.
ولكن سرعان ما يتبدل الحال، ويأتى القرآن بآياته المعجزة، فيكشف عما وراء هذا الصمت من حياة متدفقة، وإذا بنا بين يدى هذا الغار الموحش المخيف، إزاء مسرح يموج بالأحداث العجاب.
ولا نرى في هذا المقام أروع، ولا أصدق من كلمات اللّه في عرض الموقف، وكشف هذه الأحداث.
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً}.
فالشمس هنا كأنها جزء من هذا الكهف، قد شغلت به عن الدنيا كلّها، وجعلت مدار فلكها حوله وحده، حتى لكأنها مسخرة لمن هم في هذا الكهف دون الكائنات كلها، وحتى لكأنها أمّ حانية عليهم، ترعاهم بعينها، وتظلّهم بظلها: {إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ}.
وهنا تأخذ الحياة تظهر شيئا فشيئا، في هذا السكون المطبق.. فهؤلاء النيام يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال.. وكلبهم قائم بالحراسة في مداخل الكهف {باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} إنه لمنظر عجيب! حياة تدب في هذا الموات العريض.. حيث لا يقع في الوهم أن كائنا حيّا يسكن إلى هذا الكهف، الذي يفغر فاه ليلتهم كلّ من يدخل إليه، اللهم إلا أن تكون جماعة من الجن، أو نفرا من الشياطين:
{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً}.
ثم ما هي إلا كرّة من كرات الزّمن، حتى تكتمل الحياة، ويصحو القوم، ولا تزال على أعينهم أطياف الكرى.. يتثاءبون، ويتمطّون، وبين التثاؤب والتمطّى، يدور بينهم حديث متخافت، متخاذل، متكسّر.. يصحب معه بقية من أثر هذا النعاس الثقيل.. وإنك لا تجد أبرع ولا أروع ولا أدقّ ولا أصدق من كلمات اللّه، في تصوير هذا المشهد، الذي تتحرك فيه الكلمات متثاقلة متباطئة تتقلّع من أفواههم كما تتقلّع خطا المقيد يمشى على كثيب من الرمال! {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً}.
وانظر كيف بدأ هذا الحديث.. بتلك القافات المتكررة، وما فيها من ثقل وتقلّع، ثم تلك الواوات والياءات، وما فيها من رخاوة وتميّع.. إنك لو ذهبت تسرع بقراءة الآية الكريمة: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لما استجاب لك لسانك، ولعقلته تلك الكلمات والحروف، عن أن يجاوز الحركة البطيئة المقدورة له في هذا الموقف.. وإلّا تعثّر واضطرب.
ثم يأخذ النعاس ينجلى شيئا فشيئا، حتى يصحو القوم صحوة واعية، فإذاهم يتدبرون أمرهم، ويأخذون في العمل.. وإذا الكلمات تحيا على شفاههم، وتأخذ طريقا جادّا حازما.
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً}! وينتقل المنظر من الكهف إلى المدينة.. وإذا رسول الجماعة يسعى هناك، مقتصدا في مشيته، مكثرا من التلفّت التائه في هذا العالم الغريب، الذي يراه كما يرى النائم حلما يطوّف به في عالم غير عالمه الذي عاش فيه! وفجأة ينكشف أمر الرجل لأهل المدينة، وإذا هو ظاهرة غريبة، أشبه بالظواهر الكونية التي تبغت الناس.. وإذا رجّة طاغية تستولى على المدينة كلها، وإذا الناس جميعا إلى حيث الرجل، كأنما يساقون إلى الحشر.
والذي انكشف للقوم من غرابة الرجل، هو غرابة هيئته في زيّه، ثم إن الذي نمّ عليه كذلك، هو هذا النقد الذي قدّمه ليشترى به طعاما.
فالزّى الذي يتزيّا به الرجل قديم، من زمن مضى لا يلتقى مع زىّ القوم في هذا الوقت الذي طلع عليهم فيه، إذ أن الناس يستحدثون في كل زمن زيّا غير زىّ الآباء والأجداد، وكذلك النقد الذي يتعاملون به، إنه يأخذ صورا وأشكالا في كل عصر.
وبهذا الزىّ، وهذا النقد.. افتضح أمر الرجل للقوم، وبدا واضحا أنه من عالم غريب عنهم.
أما ما يقال من أن فتية الكهف قد تغيّرت حالهم الجسدية، فطالت شعورهم حتى جاوزت قاماتهم، وطالت أظافرهم.. إلى غير ذلك من العوارض التي تعرض لمظهر الإنسان بفعل الزمن- ما يقال من هذا فهو غير صحيح، والدليل على بطلانه، أنه لو كان شيء من هذا قد عرض للفتية أثناء نومهم لرأوا هذا ظاهرا فيهم، حيث يرى بعضهم بعضا، ولأنكروا أنفسهم قبل أن ينكرهم الناس.. ولما قالوا: {لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} والأقرب إلى ما تشير إليه أحداث القصّة، أن الفتية لم يتغير منهم شيء، منذ ناموا إلى أن بعثوا من رقدتهم، بل جمدوا على الحال التي دخلوا فيها الكهف، وأسلموا أنفسهم للنوم.. وهذا أبلغ في الدلالة على ما للقدرة الإلهية، من سلطان على الوجود، وعلى الأسباب والمسببات جميعا.
{وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}.
فقد اختلف رأى القوم في شأن الفتية، وما يصنع بهم بعد أن ماتوا، ثم انتهى الرأى إلى أن أقاموا مسجدا عليهم، تكريما لهم، واعترافا بأنهم من أهل الإيمان.
ويخيل للمرء أن القصة قد انتهت، وأن هذه هي خاتمتها.. ولكن سرعان ما تنتقل به القصة عبر القرون، وتطوّف به في الأمم والشعوب، فيسمع أصداء القصة تتردد في كل أفق، وتجرى على ألسنة الأمم، يتناولها الناس بتعليقاتهم، على ما اعتاد الناس أن يصنعوه مع كل حدث عجيب من أحداث الحياة.. وإذا الأحاديث مختلفة، والأخبار متضاربة، كلّ يحدّث بما وقع له في تصوره، مما اجتمع لديه من مختلف المقولات.
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}.
ويخيّل للمرء مرة أخرى أن القصة قد انتهت، ولكن ما إن يستريح لهذا الخاطر، حتى تظهر له تلك المفاجاة الكبرى التي تملأ النفس عجبا ودهشا.
فالقصة إلى الآن تكاد تدور في محيط الواقع الممكن.
جماعة أنكروا باطل قومهم، حين أشرقت قلوبهم بنور الحق، ثم فرّوا بدينهم خوف الفتنة فيه، فلجأوا إلى الكهف ليختفوا فيه أياما.. ثم أخذتهم في الكهف نومة، استيقظوا بعدها جياعا، فبعثوا أحدهم إلى المدينة يجلب لهم طعاما حلالا.. ثم كان أن وقع المحذور، وعرف القوم أمرهم وكشفوا سرّهم.
قصة تحدث كثيرا في الحياة، يستمع إليها المرء، وينتهى منها، ولا يكاد يدهش لشيء فيها، إلا ما تحمله الآيات من روعة التصوير، وبراعة العرض، وإعجاز البيان.
ولكن ما يكاد المرء يطمئن إلى هذا، حتى يفجأه هذا الخبر المذهل:
{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً}.
يا للّه!.
نومة تستغرق هذه المئات من السنين، ثم يكون بعدها يقظة وحياة؟
{ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ} ولا جواب غير هذا!
وقفة أخيرة مع القصة:
ولا نريد أن نترك القصة دون أن نقف وقفة قصيرة مع بعض تلك التلبيسات التي يدخل بها بعض الدارسين الذين يتأثّرون خطا المستشرقين، الذين ينظرون إلى القرآن نظرتهم إلى أي عمل بشرىّ.. فالقرآن عندهم هو من عمل محمد ضمّنه ما وقع في خاطره وتأملاته من آراء.
يقول أحد هؤلاء الدارسين للقصص القرآنى، وهو يستدعى من شواهد القرآن ما يؤيد به زعمه الذي يزعمه في القصص القرآنى، وهو أنه يستملى مادته من أساطير الأولين.. يقول في قصة أصحاب الكهف:
أما قصة أصحاب الكهف، فنقف منها في هذا الموطن- أي موطن الاستدلال على أسطورية القصص القرآنى- كما يتخرص- عند مسألتين:
الأولى: مسألة عدد الفتية، والثانية: مدة لبثهم في الكهف.
ثم يتحدث عن المسألة الأولى.. فيقول:
أما من حيث العدد، فليس يخفى أن القرآن لم يذكر عددهم في دقة كذا وإنّما ردّد الأمر بين ثلاثة، ورابعهم كلبهم، وخمسة وسادسهم كلبهم، وسبعة وثامنهم كلبهم وليس يخفى أن القرآن الكريم، قد ختم هذه الآية بتلك النصيحة كذا! التي بتوجه بها إلى النبيّ، وهى قوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً}.
ثم يسأل هذا العالم ببواطن الأمور، فيقول: ما معنى هذا التردد في العدد؟ وما معنى هذه النصائح؟
ثم هو يجيب:
لا نستطيع أن نقول: إن المولى سبحانه وتعالى كان يجهل عدد الفتية من أصحاب الكهف، وأنه من أجل هذا لم يقطع في عددهم برأى! فالمولى سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وإنه يعلم السرّ وأخفى!وإنما نستطيع أن نقول: إن هذا لم يكن إلا لحكمة.. والحكمة فيما نعتقد هي أن المطلوب من النبيّ عليه السلام أن يثبت أن الوحى ينزل من السماء!! وأن يثبت ذلك لا بالعدد الحقيقي للفتية من أصحاب الكهف- فذلك لم يكن موطن الإجابة- وإنما بالعدد الذي ذكره اليهود من أهل المدينة للمشركين من أهل مكة، حيث ذهب وفدهم ليسأل عن أمر محمد، أنبيّ هو أم متنبئ.. وإذ كان أحبار اليهود قد اختلفوا في العدد، وذكر كل منهم عددا معيّنا، كان على القرآن أن ينزل بهذه الأقوال، حتى يكون التصديق من المشركين بأن محمدا عليه السلام نبىّ! ولو ذكر القرآن العدد الحقيقىّ وأعرض عن أقوال اليهود لكان التكذيب القائم على أن محمدا لم يعرف الحقيقة.. وليس وراء هذا إلا أن الوحى لا ينزل من السماء!!.
ولا نذهب مع هذا الباحث إلى أكثر من هذا، فلا نعرض رأيه في عدد السنين التي ذكرها القرآن عن نومة أهل الكهف، ويكفى أن نردّ هذا الاتهام الصريح للقرآن الكريم.. فإن هذا القول يصيب القرآن في صميمه.
فأولا: إذا سلمنا بأن القرآن قد جاء في قصصه بما يطابق ما عند اليهود من معارف، وذلك ليثبت لهم، ولمن تلقّى عنهم من مشركى مكة- صدق محمد، وأنه نبىّ يوحى إليه من ربّه، وأنه لو جاء بالواقع الذي يخالف ما عندهم لما سلّموا به- نقول: لو سلمنا بهذا القول في القرآن لكان معنى هذا، أنه كان عليه أن يجرى مع اليهود إلى آخر الشوط، فلا يجيء بشيء مما يخالف ما هم عليه من مذاهب وآراء، ولكان عليه ألا يقول في المسيح غير ما قالت النصارى من أنه ابن اللّه، بل ولما كان له إلا أن يقول بما يقول به المشركون أنفسهم في آلهتهم، وذلك حتى يسلّموا له، وينتهى الأمر عند هذا الحدّ، وكفى اللّه المؤمنين القتال.
ألهذا إذن جاءت رسالة محمد؟ وأ لهذا أيضا جاءت رسالات الرسل، تجرى على ما عند الأقوام من آراء ومعتقدات؟ وأين مكان الرسالة إذا في الناس؟ وما محتواها؟ إذا كانت لا تخرج على ما عند المرسل إليهم؟
ونقول في عدد أصحاب الكهف: إن القرآن الكريم لم يذكر في عدد أصحاب الكهف قولا له، وإنما ذكر ما يجرى على ألسنة الناس من حديث عنهم، وعن عددهم، على مدى الأزمان، حاضرها ومستقبلها.. ولهذا جاء التعبير القرآنى: {سَيَقُولُونَ} ولم يقل قالوا.. ولو كان من تدبير القرآن أن يردد أقوال اليهود، لينال بذلك موافقتهم، ويأخذ منهم شهادة بأن القرآن وحي من عند اللّه، لكان من الحكمة أن يأخذ بقول واحد من هذه الأقوال، وينتصر له، وبهذا يوقع الخلاف بين أصحاب هذه الأقوال المختلفة!.
ثم نسأل: كيف يكون في موافقة القرآن لمقولات اليهود المتضاربة المختلفة في عدد الفتية ما يجعل عند اليهود وعند المشركين دليلا على أن القرآن وحي؟ ألا تكون التهمة قائمة بأن محمدا قد تلقّى هذه المقولات من اليهود أنفسهم، كما يقال إن مشركى مكة قد تلقوها منهم؟ فما هو الجديد الذي جاء به محمد ليشهد له بأن القرآن وحي من عند اللّه؟ وهل كانت هذه المقولات من الأسرار التي احتفظ بها اليهود فيما بينهم؟ وكيف تكون سرّا وهى على هذا الخلاف الشديد بينهم؟ كلام لا معقول له أبدا.
أما التعليل الذي يمكن أن يفهم عليه إغفال القرآن لذكر العدد الحقيقي لأصحاب الكهف، والقطع به، فهو ما جرى عليه أسلوب القرآن في كل موقف يلتقى فيه بأصحاب المراء والجدل، الذين يريدون أن يسوقوه إلى المماحكات والمهاترات، التي لا تنتج إلا اضطرابا وبلبلة.. والقرآن يعرف طريقه إلى غاياته التي يريدها، فهو لا يقف عند هذه المواقف، ولا يلقاها بما يقدره أصحابها من صرفه عن وجهته، وشغله بهذا اللغو من الكلام عن رسالته! ففى كل مرّة كان يسأل فيها النبيّ سؤالا متعنّتا، لا يراد به كشف حقيقة، أو جلاء غامضة- كان يدع السائلين لما هم فيه، ويصرف وجهه عنهم، ليلقى الحياة كلها، بالجواب الذي فيه نفع للناس، وهدى للعالمين! سأل المشركون النبيّ عن الهلال: ما باله يبدو صغيرا، ثم يكبر، ثم يعود صغيرا؟.
وكان الجواب: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها}!. (189: البقرة) وكذلك الشأن في فتية أصحاب الكهف.. إن العبرة الماثلة في قصتهم، ليست في عددهم قلّ أو كثر.. فليكونوا ثلاثة، أو مائة، أو ألفا.. أو ما شئت من عدد.. وإنما العبرة، هي في موقف هؤلاء الفتية من الضلال الذي كان مطبقا على البيئة التي يعيشون فيها. وفى تخليص أنفسهم من هذا الضلال، وفى التضحية بالأهل، والمال، والوطن، في سبيل العقيدة، والفرار من وجه الفتنة فيها!.
وماذا يعود على من يقف على هذه القصة، إذا هو علم على وجه التحديد، عدّة هؤلاء الفتية وعدد السنين التي لبثوها في كهفهم؟.
إن كثرة العدد أو قلته- سواء في الأشخاص أو في السنين- لا يقدّم ولا يؤخّر كثيرا أو قليلا، في مضمون القصة ومحتواها، وفى الأثر النفسي الذي تحدثه، وفى المعطيات التي تجيء منها وتقع موقع العبرة والعظة! وفى قوله تعالى: {فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} إلفات إلى النبيّ الكريم، بألا يقف من مقولات القائلين في أصحاب الكهف، وفى تحديد الزمن الذي عاشوا فيه، والبلد الذي كانوا من أهله، وفى أسمائهم، وأسماء ملوكهم، ورؤسائهم.. إلى غير ذلك- ألا يقف النبيّ من هذه المقولات موقف الباحث الطالب للحقيقة.. فكل هذه قشور، لا لباب فيها، وإنما اللباب، هو الأحداث والمواقف، واتجاهات تلك الأحداث وهذه المواقف.
والمراد بالمراء الظاهر هنا، هو، ألا يدفع النبيّ ما يقول القائلون في عدّة أصحاب الكهف، وأسمائهم، وأزمانهم، وغير هذا، وألا يستقصى الحقيقة في هذا. فالحقيقة، وما وراء الحقيقة، سواء في هذا المقام! فأى جديد يدخل على محتوى القصة إذا كان عدد أصحاب الكهف كذا أو كذا، أو كان أسماء أبطالها فلانا، وفلانا وفلانا، أو غير فلان وفلان وفلان؟ وقل مثل هذا، في الزمن الذي الذي لبثوه في الكهف، وفى البلد الذي جرت فيه أحداث القصة!